انتشرت في مصر عبر العصور جملة يكثر ذكرها على الألسنة وهي" حكم قراقوش" وتقال للشخص إذا كان صاحب سلطة للبغي والظلم، فتقال للوزير والمدير و أحيانا لرب الأسرة.
قراقوش في بعض مصادر التاريخ
بعض المصادر التاريخية صورت قراقوش كمصدر للسذاجة والبله، كما انتشرت العديد من الحكايات تفيد بأنه أحمق وغبي ، والبعض يتخيل أن قراقوش شخصية خيالية لا وجود لها.
حقيقة قراقوش
إلا إن الحقيقة غير ذلك تماما، لأن شخص قراقوش كان مثالا للعدل والعطاء بلا حدود.
فقد كان واحدا من ثلاثة بنى عليه صلاح الدين الأيوبي أركان حكمه.
قال عنه إلياس في كتاب بدائع الزهور " كان قراقوش القائم بأمور الملك واستطاع أن يقود الرعية بأحسن سياسة وقد أحبته الرعية ودعوا له بطول البقاء".
صور قراقوش عبر التاريخ
لقراقوش صورتان صورة تاريخية صادقة وصورة روائية، الصورة الأولى وضعها له عدو من منافسيه. أم الصورة الحقيقية طمست ومحيت، وبقيت الصورة التاريخية المزيفة وخُلدت.
فطالما ذُكر قراقوش تحدث الناس عنه كمثال للتسلط والاستبداد غير مدركين حقيقة أمره.
وقليل من الدراسات التي خلدت اسمه وأعطت له حقه.
من قراقوش؟
الأمير بهاء الدين بن عبدالله الأسدي قراقوش، ويعني اسم قراقوش(النسر الأسود) هو أحد قواد بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي ، كان من أخلص أعوانه وأقربهم إليه، وكان قائدا مظفرا و جنديا أمينا، كما كان مهندسا حربيا منقطع النظير، بل أحد كبار المهندسين البارعين والبنائين في تاريخ الإسلام.
كان مثالا كاملا للرجل العسكري فإذا تلقى أمرا أطاعه بلا معارضة ولا تأخير.
الغريب أن كل هذا التراث المغلوط من السمعة السيئة التي تدل على البطش والاستبداد سببها كتاب وضعه أحد أعداء قراقوش وخصومه في عصره ويدعى (ابن مماتي) حيث كتب عنه كتاب يسمى ( الفاشوش في معرفة أخبار قراقوش).
ملأ ابن مماتي الكتاب بالادعاءات الباطلة عن قراقوش التي سرعان ما انتشرت على ألسنة العامة داخل وخارج مصر حيث وصفه بالحمق والبطش والاستبداد، إلا إن الكتاب بعيد كل البعد عن الحقيقة، إذا فما الحقيقة؟
حقيقة قراقوش
ولد قراقوش بآسيا الصغرى وهو رومي النسب خدم أسد الدين شركوه القائد العسكري في جيش عماد الدين الزنكي ثم في جيش خليفته نور الدين محمود الذي قرب شركوه وقدمه على بقية قواد الجيش ودخل قراقوش مصر في جيش أسد الدين شركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي.
تلك الفترة التي شهدت انهيار الدولة الفاطمية وبداية الدولة الأيوبية.
كان صلاح الدين يقيم حكمه على ثلاثة أشخاص وهم الفقيه عيسى الهكاري والقاضي الفاضل وقراقوش، وكان هؤلاء الثلاثة وراء تثبيت دولة صلاح الدين الجديدة.
برز قراقوش من بين الثلاثة فكان دوره كبيرا في السيطرة على حالة الفوضى التي عمت في مصر بعد موت الخليفة العاضد ومحاولة بعض رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين ، لبقاء مصر تحت راية الفاطميين.
لكن قراقوش تمكن من السيطرة على الموقف ، فقام بنقل أسرة العاضد من قصر الخلافة إلى منزل الأمير (برجوان) صاحب الحارة التي تعرف باسمه حتى الآن بالقاهرة.
وعزل النساء عن الرجال من أسرة العاضد وباع العبيد والجواري وسيطر على ثروة القصر الفاطمي والتي لم تتوفر لملك من ملوك الدنيا من قبل.
فقد كدس فيه الفاطميون خلال قرون العديد من التحف والكنوز والنفائس ما لا يحصيه العد.
كلف صلاح الدين الأيوبي قراقوش حفظ القصر فنظر فإذا أمامه الكثير من عقود الجواهر والحلى النادرة والكؤوس الذهبية والبسط المنسوجة من خيوط الذهب، هذا فضلا عن العرش الفاطمي الذي صمم من أرطال الذهب، ومن نوادر الجواهر.
كما كان القصر يمتلئ بالعديد من الجواري الفاتنات من كل أركان الأرض بما يفتن العقل ويسحر الألباب، فلا فتن قراقوش المال ولا الجمال ووفى الأمانة حقها، ولم يأخذ لنفسه شيئا.
وأقام قراقوش أعظم المنشآت الحربية التي تمت في عهد صلاح الدين, إذا زرتم القاهرة وخاصة القلعة المتربعة على المقطم المطلة على المدينة، فاعلموا أن هذه القلعة من آثار بناء قراقوش.
ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع الحرب بينهم فأصلح بينهم قراقوش.
قراقوش الوصي
ولما مات العزيز الأيوبي وأوصى بالملك لابنه المنصور وكان صبيا في التاسعة من عمره جعل الوصي عليه قراقوش فكان الحاكم العادل والأمير الحازم الذي أصلح البلاد وأرضى العباد.
كان أغلب ظروف دولة صلاح الدين تفرض عليه الحرب ضد الصليبيين الذي يحتلون بيت المقدس آنذاك، فتوسعت الدولة في بناء الحصون العسكرية وتوسعة الطرق وكلها مهام ضخمة كلف صلاح الدين بها قراقوش الذي كان مشهورا بصبره وجلده كما عُرف عنه همته التي لا تلين.
عبقرية قراقوش الهندسية
إضافة إلى ذلك كان بهاء الدين قراقوش يتمتع بموهبة هندسية كشفت عنها أعماله، فكان أول عمل عظيم قام به قراقوش هو بناء قلعة الجبل على بناء مرتفع من الأرض منفصل على جبل المقطم بالقاهرة.
بعد أن فرغ قراقوش من بناء قلعة الجبل قام ببناء قلعة (المقياس) بجزيرة الروضة ثم سور مجرى العيون الذي ينقل المياه من الخليج حتى القلعة، وهو عمل هندسي يتميز بالدقة والحرفية الهندسية، كما شرع في بناء سور عظيم يحيط بالقاهرة والجيزة لكنه توفي قبل أن يتم عمله.
ويعد هذا العمل أحد أسباب كراهية العامة لقراقوش الذين أحسوا بمرارة السخرة في هذا العمل الضخم.
كان لقراقوش دور هام في الشام في عكا فبعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين في عكا كان حصن عكا قد تهدم منه أجزاء بسبب المعارك فرأى صلاح الدين أن يترك عكا وحصنها أمانة في يد قراقوش.
بقى قراقوش حارسا على المدينة وعكف على ترميم وإصلاح ما تهدم بعزيمته التي لا تعرف الكلل.
فبعد ذلك من أين تأتي السمعة السيئة عن قراقوش، إنه جريمة الأدب يا سادة والتي أساء المتنبي فيها إلى كافور وأساء ابن مماتي إلى قراقوش
من ابن مماتي الذي أساء إلى قراقوش؟
كاتب بارع وأديب طويل اللسان، وكان موظفا في ديوان صلاح الدين، ولكن الرؤساء يخشونه ويتحامونه ويتملقونه بالود حينا والعطاء حينا.
إلا إن قراقوش لم يعبأ به ولم يتملقه، ولم يدرك أن سن القلم أقوى من سن الرمح عبر التاريخ، وإن طعنة الرمح تجرح الجرح فيشفى أو تقتل المجروح فيموت، أما طعنة القلم فتجرح جرحا لا يشفى ولا يريح من ألمه الموت.
فألف ابن مماتي رسالة سماها (الفاشوش) وصدقها الناس، ومات قراقوش الحقيقي وبقى قراقوش الفاشوش.
يجب عليك تسجيل الدخول لتستطيع كتابة تعليق