وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ
لَيْلَةً لَا تُشْبِهُ لَيَالِي الدَّهْرَ بَلْ هِيَ عُمَرُ بَلْ قُلْ أَعْمَار فَوْق عُمُرُ الْإِنْسَانِ نَعَمْ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ .
وَقَدْ صَدَقْ اللَّهُ الْعَظِيمِ : وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، فَكَثِّرْ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَدْرُونَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَمَا قَدَرَ عظمتها وَعَظِيم أجرها فِيهَا لَيْلَةُ التَّقْدِير ، فَلَفْظَة وَمَا أَدْرَاكَ لَا تُقَالُ إلَّا فِي تَفْخِيم الْأَمْر وَإِظْهَار عُلُوّ الْقَدْر وَجَلَالَة الْمَنْزِلَة .
فَمَن الْعَيْبَ إنْ يُعَامَلَ شَهْر الْقُرْآن مُعَامَلَة بَقِيَّةُ الْأَشْهُرِ وَمَن الْخِزْي إلَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ لَيَالِي رَمَضَانَ وَبَقِيَّة الْعَامّ وَمَن الْحِرْمَان حَقًّا أَنْ يُحْرِمَ الْعَبْد أَعْظَم اللَّيَالِي وَأَزْكَاهَا .
تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي بِمَثَابَة مِيزانِيَّة لِلْعُمْر ، فَقَلِيلا مَنْ يَعِيشُ أَلْفِ شَهْرٍ ! وَإِنْ عَاشَ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيع قِيَامِهَا ! فَكَيْفَ وَقَدْ أدمجت الْأَلْف شَهْرٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ! أَتُرَاك تَعْقِلُ أَنَّ خسرتها .
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ مُفَرَّقَة بَيْن لَيَالِي عَشَرَ ألَّا تَجْتَهِد فَتِلْك الْعَشْر غَيْر مَفْرِق بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ .
وَاَللّهِ لَوْ كَانَتْ لَيْلَةُ فِي لَا أَقُولُ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ بَلْ لَوْ فِي عَشَرَةِ أَعْوَامٍ لِحَقّ أَنْ يَجْتَهِدَ الْعَبْد طَمَعًا فِي خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ، فَكَيْفَ الظَّنُّ وَهِيَ عَشَرَةٌ لَيَالِي فَقَط بِهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَيْ إحْيَاؤُهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادِهِ 83 ، أَو 84 عَامًّا .
فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاء ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "كان إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرِ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظ أَهْلَهُ وَشَدَّ المئزر" ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : "كان يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَالًا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا .
وَنَقَل الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ، أَنَّ مَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، استُحبّ لَه كِتْمَان ذَلِك ، وَإِلَّا يُخْبِرُ بِذَلِكَ أحداً ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا كَرَامَة ، وَالْكَرَامَة يَنْبَغِي كِتْمَانُهَا بِلَا خِلَافٍ .
وَلَك أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْسَتْ خَاصَّةً
نَعَمْ فِيهَا لَا تَخْتَصُّ بِزَمَن دُونِ زَمَنِ أَوْ مَكَان دُونَ مَكَان أَوْ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ .
فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ تَكُونُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَإِذَا مَاتُوا رُفِعت ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : "بل هِيَ إلَى يَوْمِ القيامة" خرّجه أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَإِن لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْسَت لِلْمُصَلِّين فَقَط
بَلْ هِيَ لِلْمَرِيض وَالصَّحِيح و لِلنُّفَسَاء وَالْحَائِض ، وَالْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، وَقَدْ قَالَ الضَّحَّاكُ : "لهم فِي لَيْلَةٍ الْقَدْرِ نَصِيب ، كلُ مَنْ تُقْبَلُ اللَّهُ عَمَلَهُ ، سيعطيه نَصِيبَهُ مِنْ لَيْلَةِ القدر" .
وَلَك أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ يُضَاعِف آجَرَهَا فِي رَمَضَانَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي مَطَالِبَ أُولِي النُّهَى : وَتَضَاعَف الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ بِمَكَان فَاضِل كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي الْمَسَاجِدِ . وَبِزَمَان فَاضِل كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ , وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَرَمَضَان .
أَمَّا مُضَاعَفَة الْحَسَنَة ; فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ . وَأَمَّا مُضَاعَفَة السَّيِّئَة ; فَقَالَ بِهَا جَمَاعَةً تَبَعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ . . . وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَضْعِيفِ السَّيِّئَات : إنَّمَا أَرَادُوا مُضَاعَفَتِهَا فِي الْكَيْفِيَّةِ دُون الْكَمِّيَّة . اهـ .
لِذَا يُسْتَحَبُّ فِي رَمَضَانَ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالصَّدَقَة ؛ وَغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ لِتَضَاعُف الْحَسَنَات بِه .
وَيَعْظُم ثَوَابِ التّلَاوَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نظرًا لِعِظَم مَكَانَتِه وَفَضْلِه ، فَيَنْبَغِي الإِكْثارُ فيهِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَمُدَارَسَتَهُ . فَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي لَطَائِفِ الْمَعَارِفِ : وَكَانَ السَّلَفُ يَتْلُونَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، كَانَ الْأَسْوَدُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ فِي رَمَضَانَ ، وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ خَاصَّةً ، وَفِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ فِي ثَلَاثٍ ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَخْتِمُ فِي كُلِّ سُبْعٍ دَائِمًا ، وَفِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ، وَفِي الْعُشَرِ الْأَوَاخِرِ كُلَّ لَيْلَةٍ ، وَكَان لِلشَّافِعِيِّ فِي رَمَضَانَ سِتُّون خَتْمُه يَقْرَؤُهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوُهُ ، وَكَانَ قَتَادَةُ يُدَرِّسُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ قَالَ : فَإِنَّمَا هُوَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَإِطْعَام الطَّعَام . انْتَهَى مُخْتَصَرًا .
وَاللَّيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلُّهَا ترتجى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، فَيَكُون الدُّعَاءُ فِيهَا مشروعًا ، ومرجو الْإِجَابَة .
قَالَ ابْنُ عُثَيْمِين : هَذِه أيضًا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ : عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَهِيَ خَيْرُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّيَالِي بِالنِّسْبَة لِلْإِجَابَة ، أَيْ إنْ آخِرَ اللَّيْلِ فِيهَا وَقْتَ أَجَابَه ، وَهِيَ خَيْرُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ بِالدُّعَاءِ فِيهَا ، وَفِي بِالْبَرَكَة الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (إنا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مباركة) . اهـ .
قُلْت : هَيَّأ قَبْلَ أَنْ يَنْفُض السُّوق ، فَتَأَمَّل وَكُنْ مِنْ الْمُفْلِحِينَ . اِغْتَنَم وَتَعَرَّض لِلنَّفَحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ .
وَجمعه : عُمَر عَرَفَات
يجب عليك تسجيل الدخول لتستطيع كتابة تعليق