حكم العادة والمعجزات
متى يمكننا أن نقول أنّ شيئًا ما مستحيلٌ؟
يخبرنا أهل الفلسفة أنَّ هناك نوعين من المستحيلات:
* المستحيلات العقلية : وهو ما يحيله العقل بالكلية وقيام هذا المستحيل في الواقع يعني الوقوع في تناقض، أي بلغة إحصائية احتمال وقوعه هو صفر.
* المستحيلات عادةً : وهو ما لا يجزم العقل باستحالته، ولكن تَعَوَّد الناس أن هذا شيء نادر الوقوع فيكون أقرب للمستحيل، بنفس اللغة الإحصائية تكون إمكانية وقوعه هي واحد صحيح، ولكن احتمالية وقوعه تقترب من الصفر ولكنها لا تساويه.
جزء كبير من مشكلة العلم عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى ضيق المساحة التي يوجبها عقله أو يحكم باستحالتها، ويظل في حالة افتقار معرفي ويعوض هذه الحالة من الفقر عن طريق الواقع، فأنت تعلم عن شيء ما في الواقع عن طريق ملاحظته، ثم إخضاعه للتجارب، ثم يأتي ما يزيدك يقينًا في نظريتك ألا وهو التكرار، ندعوه نحن التكرار ويدعوه الفلاسفة الاستقراء.
بالحديث عن معضلة الاستقراء: تخيَّل أنك "دجاجة" تشرق الشمس، فترى إنسانًا يقتحم عليك "العشة" ليقوم بوضع جردل من حبوب الذرة طعامًا لك، وهذا الأمر يتكرر يوميًّا منذ أن كنت كتكوتًا يا عزيزي
1/تشرق الشمس.
2/ينفتح باب حجرتك.
3/ترى شخصًا بهيئة معينة يحمل في يده شيئًا.
4/تحصل على طعامك.
يتكرر هذا الأمر أمامك طوال عمرك كدجاجة، فتستطيع أن تصوغ نظريةً بأنه في يوم ما يحدث فيه أنْ:
1/تشرق الشمس.
2/ينفتح باب حجرتك.
3/ترى شخصًا بهيئة معينة يحمل في يده شيئًا.
فإن الحدث الرابع هو أن تحصل على طعامك.
ولكن في يوم من الأيام بدلًا من أن يحمل الرجل جردل فيه طعامك، تجده يحمل معه سكينًا ويذبحك _حفظك الله_.
ما الذي حدث؟ وكيف أخطأت النظرية؟
النظرية لم تخطئ، من أخطأ هو أنت عندما استنتجت أنه من المستحيل عقلًا ألا تحصل على طعامك عندما ترى الأحداث الثلاثة مجتمعة معًا، لكن حقيقةً فإن المستحيل الذي تكون في انطباعك هو مستحيل نتج عن العادة والتعوُّد فقط لا غير، بالإضافة إلى أن الأحداث الثلاثة ليست مؤثرة بذاتها ولكنها تخضع لإرادة صاحب العشة.
هذا ما يحدث عندما تعتقد بأن شيئًا ما مستحيل تام في ذاته، فقط بالاعتماد على "العادة".
غالبية _لو لم تكن كل_ معجزات الانبياء هي مستحيلاتُ عادة. أنبياءٌ بُعِثوا لأقوامهم بآيات تُحيل مستحيل عادة هؤلاء القوم حدثًا مُحقَّقًا.
"فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"
هل فعلا يا "فلان" أنك نبي وأنك تعدنا بالخسف أو بإمطار الحجارة من السماء؟!
كيف ونحن لم نعهد مطر تلك السماء إلا ماءً نافعًا؟!
هل فعلا أنك يا نوح تعدنا بطوفان يغرقنا؟! كيف ونحن نتحكم في الفيضانات بتلك السدود على تلك الأنهار!
ننتهي من الحديث عن تلك النقطة ونتجه لأخرى في نفس السياق.
________
عَلَّل الترمذي شعيرة الصوم بأنها شعيرة غرضها "كسر العادة"
أنت تعتاد أن تأكل في الصباح، ثم تأكل في العصر، ثم تأكل قبل النوم، يأتي الصيام فيكسر هذه العادة فيأمرك بأن تمتنع عن الطعام والشراب عند الاستيقاظ، وحتى الغروب، ثم يأمرك بأن تأكل وتشرب بعد الغروب، ثم يستحب لك الأكل قبل الفجر، ثم يأمرك بالمنع بعد الفجر وهكذا مما هدفه في الأصل "كسر العادة".
________
يأتي الكسوف أو الخسوف ليذكرنا بكسر العادة، ما اعتدته أنت من مشهد للشمس بشكل معين كل يوم منذ ولادتك ليس مستحيلًا أن تتكور وتنكدر كما انكسفت أمامك، وما اعتده أنت من شكل للقمر في السماء لا يوجد ما يستحيل معه أن ينخسف.
الاعتياد الذي كان حجة منكري البعث من الدهريين: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ".
قال الطبري: "نموت نحن ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء" فأخذوا عادةَ ما اعتادوه من حياتهم وموتهم ثم حياة أبنائهم وجعلوه دليلًا قطعيًّا على عدم البعث.
الاعتياد الذي كان حجة المشركين في تأليه أصنامهم: "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ".
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾
وبما انك وصلت لغاية هنا فشكرا ليك لسعة صدرك وربنا يجعل مستحيلك عادة ويؤتي كل ذي سؤل سؤله ويؤتيني ما أسأل.
يجب عليك تسجيل الدخول لتستطيع كتابة تعليق